100 يوم من العزلة..!

الربيع إدومو : كاتب وصحفي موريتاني

يجوز القول ان الرئيس الموريتاني محمد ولد الغزواني عاش 100 يوم من العزلة، منذ وصوله للسلطة.

يبدو الرئيس الموريتاني بعد 100 يوم من توليه السلطة مثيرا للشفقة أكثر مما هو مثير للغضب، حتى أن بيرام ولد الداه احد اخطر المعارضين في العشرية الأخيرة تعامل ببرود مع الرئيس الجديد وسار على نفس النهج احمد ولد داداه زعيم حزب التكتل ومحمد ولد مولود زعيم اتحاد قوى التقدم الذين وهما اخطر رجلين معارضين وأكثرهما تجربة وحنكة ووطنية منذ استقلال البلاد عام 1960.

التقى الثلاثة مع الرئيس في القصر، وخرجوا دون إحداث ضجيج، فَهم ذلك في العاصمة السياسية نواكشوط وضواحيها انه إعلان إتاحة فرصة غير مصرح بها، للرئيس الطيب المعزول في قصره والذي لم يتحرر من هيمنة صديقة المغامر الذي “يستطيع القيام بانقلاب ولكنه لا يريد” و” سبق ونفذ انقلابات” ويعترف بذلك صراحة، والذي لا يزال ظله يزحف بعنف على مجريات الأحداث رغم تنازله عن السلطة تحت ضغط المنظومة الداخلية والخارجية بعد عشر سنوات كانت عجافا على قرن الغزال ويانعات على قرنه الآخر.

إن نظرة الناس –غير المعلنة بسبب إملاءات السياسة- للرئيس الجديد هي انه تقريبا سجين سياسي من نوع السجناء الخمس نجوم.

100 يوم الماضية كما في 100 عام من العزلة لغارثيا ماركيز تعيدنا إلى “العائلة العسكرية” وأجيالها التي تعاقبت في العقود الاربعة الماضية، وليست لهذه العائلة قصة واحدة وواضحة بل هي خيوط متشابهة –كرواية- سرعان ما يتداخل فيها الخيال بالواقع، سرعان ما يتحول فيها الأنذال إلى أبطال والأبطال إلى أنذال، والقادة إلى سجناء و”السجناء والسجناء السابقون” الى قادة.

والحقيقة ان الرجل قائد اركان سابق ووزير دفاع وشريك في انقلابات وأشياء كثيرة، وهذا بطبيعة الحال يصنفه ضرورة ضمن قائمة الرجال الأكثر قسوة على هذا البلد، فهو ضمن مجموعة الـ 100 رجل التي جعلت هذا البلد غير قادر على الاكتفاء الذاتي –حتى من الطماطم- بعد 60 عاما من الاستقلال.

هو رغم ليونته الظاهرة وكياسته كرجل موريتاني من أسرة “كيسة” نموذج واضح للنخبة العسكرية والسياسية التي مارست جبروتها على البلد وحرمت ثلثي سكانه من تخطي خط الفقر وتجاهلت معانات العبيد السابقين والطلاب والعمال الذين يرزحون تحت نير الشركات الأجنبية والإقطاعيين الموريتانيين الذين يجلدون ظهر العامل ويختطفون اللقمة من فمه.

لا يمكن تجاهل أن الرجل كان ضمن قائمة الرجال الذين حكموا البلاد من 1978 وكان شريكا في كل ما حدث تقريبا وان كان في العقد الأخير حاضرا بقوة أكثر ومقترفا الجرم مع رفاقه الذين لم ينهضوا بالبلد ولم يتركوا غيرهم ينهض به، رغم توفر كل أسباب الرخاء لو حدث قليل من الإبداع والشفافية والقطيعة مع الماضي.

وعلى طريقة ماركيز: “كلما تلاشت الأحداث من ذاكرتنا أعادها الكون لكن في شخصيات و أزمنة مختلفة”.

والحقيقة أن القطيعة مع الماضي هي حلم، وبعض الأحلام يصبح أقوى من الحقيقة، والساحة السياسية –في ضوء هذا الجفاف العاطفي والسياسي- فضلت أن تصدق أن غزواني يريد قطيعة مع الماضي.. لم يكن لديها –في الحقيقة الا ان تفعل- ولكن الرجل نفسه يبدو غير قادر على القطيعة، او يريد انجازها بالعرض البطيء الذي لا يتحمله شغف الناس للتأكد من ان قطيعة سياسية مع عشرية الجنرال تحدث فعلا على ارض الواقع.

يبدو الرئيس الموريتاني – الذي قال له احد ما ان السكوت يمكن ان يكون ورقة مهمة لإقناع الناس أن أشياء طيبة تحدث – يواصل صمته ويحاول ان يغير في الأشكال وليس في المضمون لحد الآن.

لا زالت شرطته تعذب الطلاب بسبب انهم رفضوا قرارا غريبا يحرم اكثر من 600 طالب من حق دستوري في دخول الجامعة بعد الحصول على الباكلوريا، ولا زال قضاؤه يتهرب من مواجهة من اقترفوا جرائم تتعلق بالعبودية، وهو غير قادر لحد الآن لفتح حوار دون شروط مع المعارضة، ولا زال يسمح لمافيا الأدوية المزورة والمواد منتهية الصلاحية ان تعبث بالأمن الصحي والغذائي، ولم يتشجع لإعلان حرب على الفساد ولا إطلاق إصلاح حقيقي يتعلق بالأمن أو الصحة أو التعليم أو العدالة.

لكن مع ذلك لا يمكن تجاهل أن الناس  سمحوا لأنفسهم بالثقة أن شيئا فضل في طريقه للتحقق.

لا يمكن ابدا تجاهل حدس الناس والذين يصرخون يوميا:

– امنحوا الرجل فرثة وسترون انه يحرز تقدما.

طيب.. ماذا يفعل الرئيس وهو الذي يعيش كأن الأمور لا تعنيه؟.

انه على الأرجح لا يجد وقتا كثيرا لأكل “المشوي” الذي يبدو انه يحبه مع كأس شاي، ولم يعد قادرا على الدخول في مغامراته المفرحة وهو رجل عرف عنه حب المغامرات والتحلل من الجدية العسكرية كلما أتيح له ذلك، وثبت انه لم يعد قادرا على متابعة هواية قراءة كتب السياسة والسير الذاتية للزعماء بحكم المشاغل، إضافة إلى كل ذلك فهو مشغول ويشعر بتأنيب الضمير لانهماكه في إدارة شؤون الحكم وانشغاله عن سيدة موريتانيا الأولى التي أجرت عملية جراحية في القلب، وأسوأ ما قد تواجهه سيدة أولى – أو أي سيدة – هو انشغال فارس الأحلام بالسياسة وهي “موجوعة”.

هل هي 100 يوم من العزلة ؟

الحقيقة نعم.. الرجل معزول عن نصف الموالاة ممن آمنوا بجنرالهم المخلص، وهم يحلمون له بعودة إلى الحكم والسلطة لا يعرفون حتى كيف ستتم، وهو معزول عن من يجهرون بأصواتهم دون خوف لأنه لا يريدهم في هذه الفترة، معزول عن عائلته بفعل شؤون الحكم وتعدد أسباب الأرق، وهو أيضا معزول عن المواطن البسيط، ومعزول حتى جماهيريا فهو لم يخاطب شعبه بشكل مفتوح منذ توليه السلطة.

هل هذا سيئ ؟

ورغم أن الشائع سياسيا انه رجل طيب.. وانه يحاول.. إلا أن  الناس العاديين لم تلهم إشارات بعد إلى انه يقوم بشيء ذا قيمة لتغيير حياتهم.

بدون شك، الأمر في غاية السوء، لأن الرئيس أصلا جزء من الماضي، والماضي مؤلم للموريتانيين، لان نتائجه بادية للعيان، والمستقبل مجهول في ظل صمت الرجل.

السؤال الأهم – والأسئلة أحيانا أهم من الأجوبة- إذا كان قائد أركان موريتانيا السابق ووزير دفاعها ورئيسها الحالي عاش 100 يوم الماضية في عزلة.. فكيف سيكون وضع المواطن البسيط؟

ذلك سؤال عميق.. يبدو أن الساحة – مولاة ومعارضة- لا تريد طرحه..

الجميع الآن يفضل الصمت.. أو الحديث في المواضيع التي تثيرها مجموعات “خرامز الرجالة” و”خرامز الطافلات”.